خطيب الحرم المكي: على الأمة أن تستجمع قواها وتواجه التحديات.. بمقوماتها الأصيلة لا بالإرهاب

وقال السديس: "جوهر الرسالة الإسلامية هي القيم الدينية وشمائلنا المصطفوية، حيث جاء الدين الإسلامي يحمل للبشرية صلاحها وفلاحها، ورشدها ونجاحها، وذلك؛ بعدله ورحمته، وسماحته ورأفته، وأحكامه الشرعية، وقيمه الدينية، التي تعد للروح غذاءً، وللقلوب ترياقاً ودواءً، وللعقول نوراً وضياءً، وللأنفس زكاءً ورواءً".
وذكر أن القيم المزهرة، والشيم الأخاذة المبهرة، هي التي أعتقت الإنسان من طيشه وغروره، إلى مدارات الحق ونوره، ومن أوهاق جهله وشروره، إلى علياء زكائه وحبوره، مضيفاً "قيمنا الإسلامية خاصة هي التي انتشلت الإنسانية جمعاء من أوهاق البغضاء والشحناء، إلى مراسي التوافق والصفاء والسلم والوفاء"، قال تعالى: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾.
وأوضح أن حكمة المولى -جل جلاله- اقتضت أن يكون صاحب الرسالة الإسلامية الخاتمة، إمام الأنبياء، وسيد الحنفاء، محمد بن عبدالله، -صلوات الله وسلامه عليه-، وأحبته إن لم يصحبوا نفسه أنفاسه صحبوا؛ حب متين، واتباع مكين لا ابتداع قمين، مبينا أنه قد حملت شمائله الخير كله، والبر دقه وجله، والهدى أجمعه، والعدل أكتعه، فكان جميل الخلق والخلق، وسطا في الأمور كلها ورحمة : ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ ، مبينا أن للنبي -صلى الله عليه وسلم- مكانة سامقة عند أصحابه -رضي الله عنهم- حتى كانوا يفدونه بأنفسهم وأموالهم ولا يقدمون عليه أحداً أبداً، حباً ووفاءً، وكان يبادلهم هذا الحب والوفاء؛ فهذا زيد بن حارثة لما نزل قول الله تعالى ﴿ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ﴾، مؤكدا فضيلته على أنه آن الأوان لنعلي قيمنا الدينية وشمائلنا النبوية لتكون رسالتنا العالمية الحضارية، لتحقيق السلام الإنساني والأمن العالمي، المجرد عن المطامع والدوافع، والأغراض المدخولة والمنافع، فلن يرسو العالم في مرافئ القيم والأخلاق الفاضلة، إلا بدحر الانحطاط الخلقي، والتصدي للسقوط القيمي، لاسيما في زمن التحولات والمتغيرات، والأزمات والتحديات، خاصة عبر المواقع والقنوات والشبكات، فقد كثرت المحتويات المخالفة للقيم الدينية، والأعراف السوية، والفطر النقية، ولا بد أن يكون الانتصار للقيم طي الأفكار والأرواح، لا الأدراج ومهب الرياح، ومن خلال النظر إلى واقع الأمة حيال هذه القيم أمام جيوش الماديات، وسيول المغريات، تتجلى الحاجة إلى الثبات عليها، والاعتزاز بها على ضوء الكتاب والسنة بمنهج سلف الأمة، مبيناً أنه قد استبدل بعض الناس بنور الوحيين سواهما، واكتفوا من حب هذه القيم والشمائل بالمظاهر على حساب الحقائق، فبدل أن تعيش هذه الشمائل في حياتهم كلها اكتفوا من البحر اجتزاءً بالوشل، فعاشوا بين الغلو والجفاء، وآخرون ضحايا أزماتهم النفسية ولوثاتهم الخلقية جحوداً وكنوداً ونكراناً للجميل، ممن راشوا قبل أن يبروا، وظنوا أنهم الغرباء، مأفونين مأزومين، ذوي لؤم ودناءة، وقلة مروءة وفساد طوية؛ بغية مكاسب موهومة ولعاعات مزعومة يتلونون تلون الحرباء ويروغون روغان الثعالب، ويقتاتون على موائد الأحداث والأزمات، وفي المواقف تبين المعادن، لا كثر الله سوادهم.
وأشار "السديس"؛ إلى أنه كان لزاماً على الأمة أن تستجمع قواها، وتعيد بناء كيانها، وتواجه تحديات أعدائها بالعناية بمقوماتها الأصيلة، لا بالسيف والعنف والإرهاب؛ بل بالوعي الديني الوسطي، فتدحر بقذائف الحق شبهات المبطلين، وتأويل الجاهلين، وتحريف الغالين، ولتعيش وسطاً بين المتنطعين والملحدين والمنحلين.
وبيّن أنه في الوقت الذي تجتاح فيه أجزاء من العالم الإسلامي الحوادث والكوارث، والزلازل والفيضانات، يجدر الوقوف مع المنكوبين والمرزوئين، ولاسيما في المغرب وليبيا، قائلا :"كان الله في عون إخواننا في درنة المنكوبة، لطف الله بهم، ورحم موتاهم، وعافى جرحاهم، وشفى مرضاهم، اللهم ارحم ضعفهم، واجبر كسرهم، وتول أمرهم، اللهم إنهم حفاة فاحملهم، وعراة فاكسهم، وجياع فأطعمهم، يا جابر المنكسرين، ويا مغيث الملهوفين"، مضيفاً "لقد امتدت سحائب العطاء، وجسور الإغاثة والوفاء من بلادنا المحروسة لإغاثة الملهوفين، ومواساة المنكوبين، -ولله الحمد والمنة- وهذه آيات وتذكير، ولا يُقال "غضب الطبيعة" مستشهدا بقوله تعالى ﴿ وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا﴾.
وقال خطيب الحرم المكي: "الانتصار للقيم الدينية سنن العودة الظافرة بالأمة، لنقود العالم بشغف الهمة لبلوغ القمة، ونكون فيه كما أراد الله لنا: الهداة الأئمة، ونسوقه إلى أفياء السلام والعدل بالخطم والأزمة، وإن من المفاخر والمآثر التي شهدت بها الدنيا وأطبق عليها الأنام ما من الله به على هذه البلاد المباركة من إعزاز القيم الدينية، والأخلاق الإسلامية منذ توحيدها إلى يومنا هذا، فكانت وستظل مهداً للإسلام ورائدة السلام وراعية الحرمين الشريفين وقاصديهما من الحجاج والعمار والزوار، فله الشكر على جزيل إحسانه وعظيم امتنانه، ولقد حظي الحرمان الشريفان في هذه الآونة من فائق العناية وبالغ الرعاية، وأسطع البراهين الناطقة والأدلة العابقة إنشاء جهاز مستقل يرتبط بولي الأمر -حفظه الله- لتعزيز وتفعيل الرسالة الدينية في الحرمين الشريفين، تسامحا وتعايشا ووسطية واعتدالا؛ لتحقيق قوله سبحانه: ﴿مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾، فهو مفخرة لكل مسلم، وإشراقة ساطعة في جبين التاريخ خدمة للبيت الحرام ومسجد النبي عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، سعيا لراحة ضيوف الرحمن، وتمكينهم من عباداتهم، وطاعاتهم ومناسكهم، عبر أجواء تعبدية إيمانية روحية مفعمة باليسر والطمأنينة، والسهولة والسكينة؛ لإثراء تجربة القاصدين الدينية، فجزى الله خادم الحرمين، وولي عهده، خيراً على تلك الجهود المسددة، وعلى ما قدّما ويقدّمان للإسلام والمسلمين، وجعلها في موازين أعمالهم الصالحة، أدام الله على بلادنا نعمة التوحيد والوحدة، والأمن والاستقرار، والرخاء والازدهار".